-
آسـفــــي مدينة تحتفظ بسرها التاريخي والحضاري
إعداد : محمد القاضي
مدخل
ارتبطت بالبحر ارتباطاً وثيقاً منذ القدم إلى اليوم، هذه المدينة الضاربة بمهمازها في جلد التاريخ. إنها العروس البيضاء المستلقية على ضفاف المحيط الأطلسي، ما زالت تستحم في هدوء تحت أشعة الشمس الذهبية، هذا البحر بأمواجه الزبدية يداعبها في حركة مد وجزر سرمدية.
وصفها لسان الدين ابن الخطيب قائلاً : "رباط آسفي لطف خفي، ووعد وفـي، ودين ظاهره مالكي، وباطنه حنفي الدماثة والجمال، والسذاجة والجلال، قليلة الأحزان، صابرة على الاختزان، وافية المكيال والميزان، رافعة للداء بصحة الهواء، بلد موصوف برفيع ثياب الصوف، وبه تربة الشيخ أبي محمد صالح، وهو خاتمة المراحل لمسورات ذلك الساحل، لكن ماءه قليل، وعزيز – لعادية من يواليه من الأعراب – ذليل" (معيار الاختيار).
مدينة حيرت الأركيولوجيين والمؤرخين بسرها التاريخي والحضاري الدفين. وفي كل مرة تطل من تحت أنقاض زمنها القديم بصمات ومعالم لحضارات عريقة كالفينيقية والقرطاجية.. وربما الفرعونية.
انصهرت فيها أجناس بربرية وإفريقية وعربية وأوربية، وتعايشت فيها الديانات الثلاث: اليهودية والنصرانية والإسلامية. تقع بين مدينتي : الجديدة والصويرة، وتبعد عن مدينة الدار البيضاء بـ 256 كلم وعن مراكش بـ 199 كلم.
تاريخ عريق واسم لفضاء محير
لا يعرف تاريخ دقيق لبناء المدينة وكل المادة التاريخية المتوفرة من مرحلة ما قبل العهود الإسلامية تبقى مجرد افتراضات وتخمينات لا ترقى إلى مستوى الحقيقة العلمية. وقد أشار المؤرخ عبد الله الدكالي السلاوي إلى أن آسفي مذكورة في تاريخ تيسو الفرنسي الذي ترجم فيه الدرج اليوناني المشتمل على أسماء المدن التي أسسها الرحالة حانون القرطاجي على سواحل البحر المتوسط والمحيط الأطلسي من تونس إلى ماسة، وأن آسفي من مؤسسات حانون الذي ورد إلى المغرب بأسطوله الستيني في أواخر القرن الخامس قبل الميلاد. وفي سنة 1962م تم العثور على ساق تمثال بجرف اليهود يعود إلى حقبة الرومان، وهو ما يؤكد أن آسفي سبقت العهد القرطاجي، وأن حانون قد تزود منها في رحلته.
إلا أن المؤرخ الفرنسي بيرجي يذكر بأن الطيريين أنشأوا بآسفي وكالة تجارية في القرن الثاني عشر قبل الميلاد، وأسكنوا فيها اللاجئين الكنعانيين، الذين طردوا على يد الغزاة العبرانيين، وأطلقوا على هذه المدينة اسم أعظم لسيد مقدس لبلد كنعان وهو آسفي!
وفي بعض الأخبار حسب ما يذكره صاحب كتاب "الروض المعطار" أن الشيطان نزع بين بني حام وبني سام أو سوسان، فوقعت بينهم مناوشات وحروب كانت الدائرة فيها لسام وبنيه، وكان آخر أمر حام أن هرب إلى ناحية مصر وتفرق بنوه، ومضى على وجهه يؤم المغرب حتى انتهى إلى السوس الأقصى إلى موضع يعرف اليوم بآسفي!! وهو آخر مرسى تبلغه المراكب من عند الأندلس إلى ناحية القبلة وليس بعده للمراكب مذهب.
أما الفقيه محمد بن أحمد العبدي الكانوني (توفي 1938م) يرجع اسم آسفي للأصل البربري المأخوذ من قول البربر للضوء أسفو. والكسر الظاهر الآن يرجعه لتحريف الاستعمال. فمعنى ذلك أن سكان المغرب البربر قبل الإسلام، كانوا يشيدون المنارات على شواطئ البحر لهداية السفن البربرية أثناء عودتها، كما كانوا يشعلون الأضواء في تلك المنارات إعلاماً بالهجوم واستعداداً له، ويمكن أن يكون البلد بهذه المنارات فسمي بها، كما عرفت آسفي رحلات تجارية بحرية منذ العهد البائد.
رغم هذه الإحالات من المعلوم إلى المجهول في التسمية، فإن فضاءها الجغرافي لا زال حاضراً في ثنائية المعقول واللامعقول وكأنه حضور بالقوة، حيث ترسخه اللغة عنوة لتأكيد مزيته.
آسفي والفتح الإسلامي
ولما جـاء الفتح الإسلامي لآسفي على يد الفاتـح عقبة بن نافع الفهـري سنة 62هـ، وسار حتى بلغ البحر المحيط، فدخل فيه، حتى بلغ الماء بطن فرسه، ثم رفع يديه إلى السماء، وقال: "يا رب! لولا أن البحر منعني، لمضيت في البلاد إلى مسلك ذي القرنين، مدافعاً عن دينك، مقاتلاً من كفر بك!" ثم قال لأصحابه: "انصرفوا على بركة الله!" فجلا الناس أمامه بكل ناحية هاربين.
وهناك بعض المؤرخين اعتبروا أن سبب عمارة آسفي يرجع الفضل فيه إلى البحر. إلا أنها تعرضت بعد ذلك للتخريب على يد البرغواطيين وذلك في المائة الثالثة من الهجرة، واستمروا يفسدون عقائد السكان المجاورين في سواحل المحيط الأطلسي، وتضعضعت الأحوال الاقتصادية في البلاد، إلى أن ظهر المرابطون الذين جابهوا كل هذه الأخطار والمصاعب، فاسترجعوا آسفي وعمروها شيئا فشيئاً، وجعلوها مرسى مراكش.
ولما جاءت الدولة الموحدية، التفت إليها ملوكها وسوروها بسور واسع وحسب اعتقاد الفقيه الكانوني في كتابه "آسفي وما إليه قديما وحديثا" هو الذي توجد آثاره بأطراف البلد يبتدئ جنوباً من وسط تراب الصيني من زنقة القنيطرة ويمر شمال المستشفى الأهلي ثم يمر أمام رحى الريح الأثرية وعليه أساس الجدار القبلي من فندق شركة باكيت ثم أمام القصبة العليا ثم وسط بياضة شمالاً من آسفي حتى يبلغ البحر في سمت قبة الولي سيدي أبيه من الشمال.
وفي عهد المرينيين اتسعت عمارة آسفي ونضجت بها الحضارة وشيدت بها المدرسة العلمية والمارستان (المستشفى) وغير ذلك من لوازم التمدن الشيء الذي دفع ابن خلدون إلى أن يطلق عليها في القرن الثامن الهجري: حاضرة البحر المحيط، مما يدل على أنها بلغت مبلغا عظيماً في اتساع العمارة والتفوق في الحضارة.
آسفي والاحتلال البرتغالي
عاشت مدينة آسفي عيشة رفاهية وازدهار أيام الموحدين والمرينيين، واستمرت على ذلك حتى أواخر عهد المرينيين الذين ضعفوا فاستبد بدولتهم وزرائهم الوطاسيون وأصبح المغرب حينئذ فاقداً لهيبته الشيء الذي جعله عرضة للطامعين وجعل بعض مدنه لقمة سائغة في أيدي البرتغاليين استغلوا هلهلة الوضع الداخلي في البلاد فاستبدوا بالحكم في بعض شواطئه وتسلطوا على عدد من مدنه وسيطروا على بعض مراكزه الكبرى وكانت آسفي إحدى المدن الواقعة في قبضتهم. ويذكر صاحب كتاب "آسفي وما إليه" : أن هؤلاء عاملوها أسوأ معاملة وأذاقوا من بها ألوان النكال والعذاب مما يخجل منه جبين الإنسانية، فخربوا المعاهد الدينية والعلمية، ومنها ما جعلوه محلاً للقاذورات كالمسجد الكبير، وعبثوا بالمحارم واستحلوا التجارة في الأحرار فكانوا يبيعونهم جهاراً وسفكوا الدماء ونهبوا المال وخربوا الدور.
ولما كان السور القديم لاتساعه وقدمه ومعرفة المسلمين بمواقع الغرة منه، إذ كانوا يفتحون الترع منه ويهجمون على البرتغال. كان ذلك باعثاً لهؤلاء على تسويره بهذا السور الموجود الذي يقدر بنحو ربع السور القديم أو خمسه.
حصنوا هذا القدر الصغير منه لأن هجوم المسلمين كان متوالياً عليهم وجعلوه في مسيل الوادي إلى البحر، وكان قبل ذلك مرتفعاً على المسيل فكان وضعه بها من الهندسة الخرقاء.
ويوجد على هذا السور البرتغالي نحو عشرين برجاً، أهمها: البرج الكبير بالقصبة العليا المعروفة بدار السلطان، وبرج أشبار لارتفاعهما على طرفي المدينة من جهة البر.
أما أهم الأبراج البحرية فهي: البرج الجنوبي بالقصبة السفلى البرتغالية وهذه القصبة على شاطئ البحر مربعة الشكل على كل ربع منها برج وفي وسطها عدة دور وخزائن وهي من أول ما بناه البرتغاليون. ويقابل هذا البرج من الشمال برج السلوقية على البحر أيضا غير أنه منفصل عنه وكان يصله بالبحر سور وثيق يعرف عند الناس بالعرَّاضَة وكان منحدراً، ولعل البرتغاليين هدموه لأنهم لما أخلوها خربوها وأوقدوا فيها النار أو هدمه المسلمون ثم زاد في علوه القائد عبد الرحمن العبدي سنة 1211هـ.
آسفي أيام السعديين والعلويين
كان لسقوط الأندلس وغزو البرتغاليين والإسبان لسواحل إفريقيا الشمالية رد فعل قوي في نفوس الجماهير التي انتفضت في الحواضر والبوادي للجهاد في معركة صليبية عنيفة اتخذت المغرب مسرحاً لها، وقد أذكى هذا الاعتداء الروح العسكرية وبغض الأجنبي المغير.
وفي هذا الخضم العارم انبرى السعديون لقيادة الثورة وتحرير البلاد من الاستعمار، وأولوا اهتماماً كبيراً لاسترجاع مدينة آسفي من البرتغاليين، وقد استغرق هذا الجلاء أحد عشر يوماً من 10 إلى 31 أكتوبر 1541م، بعد احتلال دام 33 سنة.
وقد اعتمد السعديون على ميناء آسفي لجلب المدافع وقطع السفن والعتاد. فمحمد الشيخ السعدي كان يصدر منه السكر الذي يأتي من "شيشاوة" ليستورد بعض المنتوجات القادمة من إيرلندا. وحسب بعض الوثائق التاريخية أن سفينة إنجليزية وصلت إلى ميناء آسفي سنة 1552م محملة بكميات من الرماح والحديد وألفين من عصي الرماح والسيوف.
ونظرا لأهمية الميناء، قام السلطان مولاي زيدان بزيارة لميناء آسفي سنة 1616م لاستقبال سفينة هولندية، كما توجد اتفاقية لتشجيع التبادل التجاري بين تجار آسفي وفرنسا وإنجلترا والبرتغال (وقد تم العثور على معاهدتين تجاريتين بين الملوك السعديين وفرنسا الأولى سنة 1040هـ/1631م والثانية سنة 1044هـ/1635م).
ودام حال ميناء آسفي على ذلك في الدولة السعدية والعلوية من بعدها إلى أن جاء السلطان محمد بن عبد الله وبنى مرسى الصويرة، فتوقفت حركة الميناء التجارية لآسفي، ودام هذا الركود إلى غاية سنة 1260هـ.
إلا أنها عرفت إصلاحات وزيادات وشيدت بها معاهد دينية وعلمية وعمرانية وخصوصاً صدر القرن الثالث عشر الهجري في رئاسة القائد عبد الرحمن بن ناصر العبدي الذي اعتنى بها عناية كبيرة، وخلد بها الآثار الجليلة كالمساجد والأبراج والأوقاف وغير ذلك.
واستقرت بالمدينة شركات تجارية وتأسست أبناك فرنسية وألمانية وإنجليزية واستقر بها القناصل الأوربيون.
وأخذت المدينة شكلها الجديد ابتداء من سنة 1904م بإقامة نشاط اقتصادي معتمد على البحر والصيد والتصبير وتصدير المواد المعدنية وبالخصوص الفوسفاط.
ومع تقهقر الوضع السياسي في المغرب وفرض الحماية الأجنبية عليه استوطن المدينة جالية فرنسية مهمة. وفي سنة 1921م زارها المقيم العام الفرنسي ليوطي عن طريق البحر وأعطى أوامره بإصلاح الميناء الذي لعب دوراً اقتصادياً مهماً من حيث تصدير الأسماك سواء على الصعيد الوطني أو الدولي.
وفي سنة 1942م استيقظت مدينة آسفي على بواخر حربية لجنود أمريكان الذين تركوا الرعب في سكان المدينة وفي الفرنسيين المقيمين بها، ولما غادروا المدينة ألقوا به مجموعة من الألغام.
ويأتي استقلال المغرب لتتربع آسفي على عرش موانئ العالم واحتلت في الستينات المرتبة الأولى في صيد سمك السردين، كما احتلت المرتبة الثانية على الصعيد الاقتصادي في المغرب بعد ميناء الدار البيضاء.
آســـفـــي الــيــــوم
آسفي اليوم عاصمة لإقليم عبدة، وتنتمي إلى الجهة الاقتصادية الكبرى تانسيفت كوحدة إدارية مستقلة عن إقليم مراكش سنة 1965م وهي السنة التي سجلت إقلاع المركب الكيماوي بالمدينة، وامتدت حدود الإقليم منذ ذلك الحين من جنوب دكالة إلى جبال الأطلس الكبير الغربي شاملاً بذلك الهضاب الساحلية من عَبْدَة والشياظمة وحاحا.
يشغل إقليم آسفي مساحة 7285 كلم مربع، بلغ عدد سكانه حسب إحصاء سنة 1994م (822205) نسمة.
إن أهم ما يميز آسفي هو سيادة النشاط الصناعي الذي يشغل 45% من السكان في قطاع تصبير السمك 1000 شخص. ويبلغ عدد مراكب الصيد 1681 مركباً كلها في ملك المغاربة.
ونظرا لغنى أرض الإقليم بمعدن الفوسفاط والكبريت في كل من اليوسفية وقطارة، فقد تم إنشاء المركب الكيماوي الذي ينتج منذ 1965م الحامض السولفوري والحامض الفوسفوري.
كما تتوفر المدينة على صناعات أخرى مثل صناعة النسيج والحياكة التي لها فيها التقدم والتفوق من قديم فقد قال عنها ابن الخطيب أنها بلد موصوف برفيع ثياب الصوف، فلنساء ناحيتها الدكالية من التفنن في نسيج الثياب الرقيقة وغيرها من الأكسية والبرانيس ما يوقع في النفوس أكبر تأثير في جذب القلوب إليها والتجمل بها في أفضل الأيام ولها في معارض الصناعات الوطنية أجمل ذكر وأحسن التفات من الأهالي والأوربيين.
وكذلك الشأن بالنسبة لصناعة الفخار التي اشتهرت بها المدينة منذ القديم وحسب بعض المؤرخين الأجانب بأنها وجدت بآسفي منذ الفينيقيين. واشتهر اسم العملي الذي قدم من الجزائر أيام الحماية الفرنسية بصناعة الخزف المنتشرة بالمدينة حول "الشعبة قرب أشبار". ولإنعاش هذا القطاع عمل أغلبية الصناع على تأسيس تعاونيات تساعدهم على مواجهة غلاء أثمنة المواد الخام. وفي هذا الصدد ارتبطت مدينة آسفي بتوقيع اتفاقية توأمة مع مدينة صينية جين تشين في أكتوبر سنة 1993م للتعاون في المجالات الثقافية والاقتصادية وتبادل الخبرات في صناعة الخزف. يقول صاحب كتاب: "آسفي وما إليه" في هذا المجال: "وهذه الصناعة أعني صناعة الفخار من أكبر مميزات آسفي، فقد حازت فيه أجمل ذكر وأجل إكبار بوجود تربتها الطيبة فسارت بذكر أوانيها الركبان وزينت بها المتاحف والبيوت وكان لها في المعارض أجمل التفات وأكبر اعتبار فترى الناس من أهليين وأجانب يتهافتون على أوانيها الخزفية فما شئت من خوابي وبرادات وغيرها من أواني البيوت في أشكال بديعة وأساليب متنوعة تجذب القلوب وتلفت الأنظار".
ويعتبر ميناء آسفي ثاني ميناء بعد الدار البيضاء، ويقوم الرواج التجاري في هذا الميناء على تصدير معدن الفوسفاط والبارييت والحوامض الكيماوية، واستيراد الحبوب والكبريت والورق...
وتعتبر آسفي من الأقطاب الحضرية الكبرى في المغرب، إذ لها دور أساسي يبرز في قدرتها على جلب واستقطاب المهاجرين من الريف بما تتيحه لهم من إمكانية خلق ظروف عيشة أحسن مما كانوا يتوفرون عليه في مواطنهم الأصلية.
آسفي: خطر التلوث
تبرز مدينة آسفي كإحدى أكثر المدن تلوثاً على المستوى الوطني على اعتبار أنها إحدى أهم المراكز الاقتصادية بالمغرب حيث تتواجد الصناعات الكيماوية وصناعة تصبير الأسماك بالإضافة إلى صناعة الخزف. وقد أثبتت دراسات ميدانية متعددة أن سواحل آسفي تضررت بشكل كبير بسبب مقذوفات المعامل الكيماوية حيث أن البحر يستقبل كل ساعة حوالي 24000 متر مكعب من مواد تتشكل من الجبص والرصاص والباريم والأرسنيك وبقايا حامض الفسفور الكبريت وهي مواد تؤثر بشكل مباشر على درجة حموضة المياه وتزيد من انخفاضها، مما يسهم في القضاء على الكائنات المتواجدة بالمحيط البحري الذي تمتد إليه هذه المقذوقات. وقد شهد الصيد الساحلي تراجعاً كبيراً ساهمت فيه الوضعية المتدهورة للساحل، وهو ما أثر على عدد من المشتغلين بالقطاع، كما أثر على نشاط وحدات التصبير التي تقلص عددها في الأيام الأخيرة. ويبقى وضع شاطئ المدينة اليتيم الذي تشرف عليه صخرة سيدي بوزيد في تناغم رائع، صورة واقعية حزينة لما يمكن أن يفعله الإهمال وإفرازات الصناعة بجمال الطبيعة وبراءتها. ذلك أنه وبعد توسع الميناء على حساب جزء كبير من الشاطئ وحرمان آلاف المصطافين من ارتياده، بعد ما كان من أجمل شواطئ المغرب المطلة على المحيط الأطلسي حيث كان يساهم في استقطاب عشرات الآلاف من السياح المغاربة والأجانب. إنها مدينة تبكي حظها التعس وقد داهمها التلوث من كل جانب!!
مدينة آسفي: قضاءات لمكان واحد
إن أول ما يسترعي انتباه الزائر وهو يتجول في شوارع المدينة كثرة النافورات الرخامية بأشكال وهندسات مختلفة، شيدت من طرف المجلس البلدي لخلق نقط جمالية تضفي طابعاً حضارياً على المدينة الأصلية حسب التصنيفات الرسمية.
ثم يزحف من هناك صوب آسفي الحقيقية، المدينة القديمة حيث الأزقة والدروب والأبواب: باب الشعبة، سيدي بوذهب، الساحة التي عرفت أبهى أيام الحلقة ورواتها. والصقالة، ودرب الحبس، درب النجارين، تراب الصيني، شارع الرباط (الشريان الرئيسي للمدينة)، برج موكة، الدريبة المزوقة، أرحات الريح، سوق العفاريت. فضاءات لمكان واحد، تتخللها مباني ومآثر تاريخية منها ما هو مصنف في عداد الآثار، ومنها غير مصنف نذكر منها: المسجد الجامع الكبير الذي يوجد أسفل المسجد القديم والذي هدمه البرتغاليون، وقد شيد في عهد السلطان السعدي محمد الشيخ، وجدد بناؤه في عهد السلطان العلوي محمد بن عبد الله سنة 1188هـ. ثم مسجد أفنان المدعو الفوقاني ويعود إلى القرن الحادي عشر الهجري، ومسجد القصبة العليا، ومسجد رباط آسفي ويوجد خارج سور المدينة، وقد أسسه الشيخ أبو محمد صالح المتوفى سنة 631هـ وقد وصفه ابن الخطيب سنة 761هـ فقال: "هو مبنى عتيق ومجمع فسيح متعدد الزيادات والصحون..."، وغيرها من المساجد.
إضافة إلى الزوايا والرباطات أشهرها رباطي الشيخ أبي محمد صالح، وزاوية عبد القادر الجيلاني، وزاوية ابن ناصر الدرعي المتوفى سنة 1082هـ، والزاوية الوزانية والدرقاوية والجزولية والتيجانية والمصلوحية وغيرها...
أما أهم المعالم الأثرية الموجودة في قلب المدينة والتي تشكل العمود الفقري لتاريخها وحضارتها العريقة هي:
- قصر البحر معلمة رابضة في شموخ على ضفة الأطلسي من أولى البنايات التي شيدها البرتغال على شاطئ المدينة قبل احتلالهم لها. ويتكون مبنى قصر البحر من ثلاثة أبراج، اثنان منها دائريان والثالث مربع الشكل، وتتوسطه ساحة كبيرة كانت تضم وحتى بداية القرن العشرين بناية مهمة كانت مخصصة للاستقبالات الرسمية بالمدينة قبل أن تمتد لها يد الاستعمار الفرنسي وتهدمها. أما الواجهة البحرية لهذه البناية فتضم مجموعة من الفتحات تتخللها مدافع يرجع بعضها إلى العهد البرتغالي والآخر إلى العهد السعدي.
- الكنيسة البرتغالية تأسست سنة 1519م على أنقاض المسجد الجامع الذي هدمه البرتغاليون واحتفظوا فقط بمنارته لاستعمالها كمكان يقرع منه جرس الكنيسة. تحولت في نهاية القرن التاسع عشر إلى حمام سمي آنذاك حمام البويبة وتلتفت إليها بعد ذلك إدارة الحماية الفرنسية وتعيد لها الاعتبار. وهي تتوفر حالياً على قاعتين تضم إحداهما في قبتها مجموعة من رموز السلطة البرتغالية (رمز للأسلحة البرتغالية، رمز لفاتحي المستعمرات، رمز للديانة المسيحية). وكلها منحوتات حجرية، كما تتوفر على مجموعة من الأقواس التي تشهد على الطابع الهندسي المانويلي (نسبة إلى الملك مانويل).
- دار السلطان كانت عبارة عن قصبة في عهد المرابطين، قبل أن يقوم الموحدون بتجديدها، ثم البرتغال الذين أحدثوا بها تغييرات جذرية، وأضافوا إليها أبراجاً جديدة تعكس طابعهم المعماري وطرازهم في البناء والتشييد. كما عرفت في القرن الثامن عشر مجموعة من الإضافات كتشييد دار ملوكية سميت (الباهية) ومسجد صغير مجاور لها.
والبناية حاليا تضم في جزء منها المتحف الوطني للخزف إضافة إلى مصالح مندوبية وزارة الثقافة بآسفي.
أما الإنسان الآسفي فقد جلب على الأخلاق الفاضلة والقيم الشريفة. محب للعمل، بسيط في عيشه، قنوع بحرفته وسمك محيطه، مشهور بتفننه في تهيئ أطباق السمك المختلفة والشهية على الصعيد الوطني.
ويكفيه فخرا ما قاله الإمام أبو حفص عمر بن عبد الله الفاسي :
لله دركم بني آسفي
فنزيلكم يُشفى من الأسفِ
حان الرحيل بعيد ما ألفَتْ
نفسي بوصلكم فيا أسفِي
أخلاقكم كالعطر في نفس
http://www.oloum-omran.ma/Article.aspx?C=10131
-
Commentaires